لو افترضنا أن متفرجا دخل الفيلم متأخرا بعض الشيء سعيا وراء شهرة أبطاله، لكن لم يسعفه الوقت لقراءة أفيش العمل أو متابعة تتر الفيلم.. صحيح أنه سيجد الأبطال الذين يحبهم ويأمن لهم، لكنه بالتدريج سيستشعر قدرة المخرج الخلاقة على تقطير جزيئات المشهد لحظة بعد لحظة، والإحساس المرهف في التعامل مع المشاهد العاطفية المعقدة، وتجميع كل خيط رفيع لإعلاء قيمة الحال الإنسانية، وتفاهم وتواصل وذوبان تام مع الممثلين وقدرة هائلة على شحن طاقاتهم الداخلية، عين خبيرة مدربة على نسج وغزل صورة جمالية تشكيلية عميقة تحمل دلالات واسعة متغيرة من كل هذا وغيره، سيدرك المتلقي الواعي أنه الآن يشاهد واحدا من أفلام المخرج الكندي الكبير جيمس كاميرون.
ويمتلك جيمس كاميرون James Cameron "1954" مواهب وخبرات متعددة في الإخراج والتأليف والمونتاج والإنتاج والتمثيل والمؤثرات المرئية، يتضمن سجل رحلته الإخراجية -التي بدأت 1978- 15 فيلما سينمائيا وتلفزيونيا.
وإذا كان هذا الكم قليلا، فيكفي كاميرون ما حققه من إنجازات، وفوزه بثلاث جوائز أوسكار كأفضل مخرج ومونتاج وفيلم، وفوزه بـ35 جائزة أخرى مع 16 ترشيحا.
ومهما ذكرنا من أفلامه المهمة مثل "أكاذيب صادقة True Lies" 1994، و"أيام غريبة Strange Days" 1995، فمن ينكر أن كل جوائزه للأوسكار نالها عن فيلمه الأمريكي البديع "تيتانيكTitanic " 1997، الذي يعد حالا شديدة التفرد في تاريخ السينما الأمريكية والعالمية، ليس لأنه فاز عنه بـ11 جائزة أوسكار و76 جائزة أخرى مع 48 ترشيحا، بل لقدرته على نشأة تعاطف عام لدى غالبية عشاق السينما في العالم، وجمعهم حال من التوحد الشديد، بعدما أضاف لقائمة العشاق الخالدين الحبيبين جاك داوسن وروز دويت.
صعب جدا تحليل أدوات كاميرون عبر كل لقطة في فيلم معقد مثل "تيتانيك"، يستغرق زمن عرضه 194 دقيقة كاملة، لهذا سنتوقف أمام جزئية صغيرة للغاية لنعرف كيف سار كاميرون في فيلمه على أساس علمي مهم وصحيح يدرك سيكولوجية الجمهور جيدا.. عندما سئل كاميرون عن سر النجاح الشديد لفيلمه قال "إن الجمهور كان يحتاج إلى قصة حب، وكل ما فعلته أنني أعطيته ما يبحث عنه". ظاهر الكلمات بسيط.. قصة حب خالدة.. لكن السؤال الأشد أهمية هو كيف أسس المخرج هذا الخلود؟
كلنا نعرف أن الفيلم يقوم على غرق السفينة الشهيرة تيتانيك في قاع المحيط بمعظم ركابها، ومن بينهم الشاب الفقير المرح الصعلوك جاك داوسون "ليوناردو دي كابريو"، والفتاة الجميلة الثرية الحزينة الملتزمة بالإكراه روز دويت بوكاتر "كيت وينسليت".. انظر إلى مجموعة المتناقضات بين الصفات والأحوال التي قدمناها قبل كل شخصية، لتدرك كم المعوقات الشديدة التي صادفت هذين الحبيبين من حيث موروثات المجتمع وقوانينه الصارمة، فكل منهما وراءه مؤسسة كاملة تمشي على قدمين.. وقد زاد المخرج الأمور تعقيدا عندما قام بتشخيص كل هذه القيود مجتمعة في سلة واحدة على السفينة، وحاصر روز بوالدتها وحاشيتها وخطيبها المزعج المتكبر كاليدون هوكلي (بيلي زين)..
إذن سفينة روز تغرق بكل ما فيها، وجاء جاك من فوق الأرض كقارب نجاة لها.. إذن غرق السفينة تيتانيك كان الغرق الثانى وليس الأول، وكل هذا البناء الضخم والأنوار الهائلة صورة مجسمة للمجتمع بكل ما فيه من طبقية وشموخ وهمي..
بعد هذا التلخيص الشديد لما فوق السطح وتحته وعلى قمته حال الحب المجنونة التي نشأت بين جاك وروز من أول نظرة مثل روميو وجولييت، تساءل الكثيرون عن سر المشاهد الطويلة جدا التي استغرقها المخرج لتجسيد كل مراحل غرق هذه السفينة العظيمة بالتدريج، على كثرة ركابها وتعدد طوابقها واتساع طرقاتها وحجراتها؟ المسألة ليست مجرد استعراض فني لقدرات جيمس كاميرون، لكنها تأسيس وممارسة لما يعرف في عالم نظرية التلقي باسم "القلق والاندماج والإحالة Anxiety, Affiliation and Attribution" .
فكلما زادت درجة الرعب والخوف داخل الحدث، امتلك القدرة على خلق قوة جماعية من القلق بين مشاهدي هذا الحدث، مثلما تعرض مشاهدو غرق السفينة تيتانيك قطرة بعد قطرة، بكافة تفصيلات الصورة الصغيرة التي تؤدي بالتدريج إلى رسم البرواز الكبير على مراحل متعددة مدروسة بعناية فائقة.
وهذا ما يولد بالتبعية حالا أخرى من الاندماج بين المتفرجين على أثر التهديد الشديد الحي أمامهم، ويصبح طلب الأمان مطلبا نفسيا جماعيا، فتتولد روابط عاطفية أقوى بينهم تمتد أثناء المشاهدة، ثم تأخذ دورة حياة كاملة خالدة حتى بعد مرحلة انتهاء الخطر، كي ينتج في النهاية ما يشكل ظاهرة اجتماعية تجمع بين كل مشاهدي غرق السفينة تيتانيك الذين لا يعرفون بعضهم من قبل.. وأخيرا نصل إلى مرحلة الإحالة، أي الارتباط القائم دائما بين حال الموت وتصاعد حال الحب والاستثارة الانفعالية الشديدة بين المتفرجين..
ومهما عاد بنا المخرج جيمس كاميرون إلى حال الحاضر لنرى روز الكبيرة "جلوريا ستيوارت"، ومهما طمأننا أنها نجت من الكارثة، ولو على حساب حياة جاك داوسون، فقد تحققت الرسالة النفسية، وانتهى الأمر بسبب قوة قيادة المخرج لهذا العمل، ونجاح عمله في عقد صداقة بين مشاهديه على أكتاف حال لا نهائية من الخوف والاحتماء بالكثرة، في دعوة عامة لممارسة المشاعر الإنسانية الفردية والجماعية الجميلة والتفتيش عنها، ولو تحت سطح المحيط